تتغير الدنيا ولا تتغير ، وعلى الزمان تجيء لا تتأخر ، مازلت يارمضان أكرم زائر للأرض .. تهدي من بها يتعثر .. ولسوف تبقى فرحة أبدية ليست تمل وإن تكن تتكرر ..
« يأتي سيد الشهور بعد أحد عشر شهراً وكثير من الناس قد استأسدت شهواتهم وتنمرت أهوائهم ، يأتي ليوقظ روافد الخير في القلب ، وتتنامى أحاسيس البر في النفوس ، وتثور ألوان من المحاسبة .. شهر الله المعظم ، الموسم السنوي للتجديد والتدريب والتهذيب ، شهر المحاسبة لهذا الكدح الطويل .. شهر القران موعد سنوي يتلاقى فيه المسلمون على نظام واحد من المعيشة ، وعلى نمط متوافق من تغيير العوائد ، توافق في أوقات الطعام واليقظة والرقاد وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها على القدرة على التكيف لمتغيرات الظروف وتقلبات الزمن .. شهر رمضان شهر الحق والعزة والقوة ، وشهر الحرية الحقة ، والانعتاق من الشهوات والأهواء .. من انهزم بينه وبين نفسه فلم يطق الصبر ساعات النهار فلسوف يكون أشدَ انهزاما أمام أعباء المجاهدة والجهاد .. ومن لم يطق الصبر سويعات فلسوف يكون عاجزاً عن التصدي شهوراً وأعواماً .. المنهزمون في الميدان الصغير مع أنفسهم ليسوا أهلاً ؛ لأن يحرزوا النصر لأمتهم في ميدانها الكبير .. من أعلن استسلامه في معركته مع شهوة نفسية محدودة .. فأين منه الرجولة ؟ وأين منه الجد والصرامة ؟ لا يعرف معنى الدين ولا يدرك سر الصوم إلا من صدق إيمانه وصح لله تعبده فأخذ الأحكام بعزم واستمسك بالدين بقوة » [ توجيهات وذكرى بتصرف ] .
ويؤسفنني أن كثيراً من المسلمين يقبلون على شهر رمضان وهم لا يعرفون للصيام هدفا ومقصداً .. يقول أحد مفكري الإسلام : « لقد فرض الله علينا الصيام في رمضان وما فرضه إلا لأسرار عليا وحكم بالغة نعرف منها ما نعرف ونجهل منها ما نجهل، ويكشف الزمن عن بعضها ما يكشف فعلينا أن نتأمل حكمة الله من وراء هذا الجوع والعطش وأن ندرك سره تعالى في الصوم حتى نؤديه كما أراده الله لا كما اشتهاه الناس فرض الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه وينطلق من سجن جسده ويتغلب على نزعات شهوته ويتحكم في مظاهر حيوانيته ويتشبه بالملائكة ، فترتقي روحه ويقترب من الملأ الأعلى ، ويقرع أبواب السماء بدعائه فتفتح ويدعو ربه فيستجيب » .
وفي الصوم تقوية للإرادة وتربية على الصبر فالصائم يجوع وأمامه شهي الغذاء ويعطش وبين يديه بارد الماء ، ويعف وبجانبه زوجته لا رقيب عليه في ذلك إلا ربه ، ولا سلطان عليه إلا ضميره ولا يسنده إلا إرادته القوية الواعية يتكرر ذلك نحو خمس عشرة ساعة أو أكثر في كل يوم وتسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين .. فأي مدرسة تقوم بتربية الإرادة الإنسانية وتعليم الصبر الجميل كمدرسة الصيام التي يفتحها الإسلام إجباريا للمسلمين في رمضان ..
لقد كتب عالم نفساني ألماني بحثا عن تقوية الإرادة اثبت فيه أن أعظم وسيلة لذلك هي الصوم .
الصوم يعرف المرء بمقدار نعم الله عليه فالإنسان إذا تكررت عليه النعم قلّ شعوره بها ، النعم لا تعرف إلا بفقدانها فالحلو لا تعرف قيمته إلا إذا ذاق المر والنهار لا تعرف قيمته إلا إذا دان الليل وبضدها تتميز الأشياء .
وليس ذلك فحسب فالصوم تذكير عملي بجوع الجائعين وبؤس البائسين تذكير بغير خطبة بليغة ولا لسان فصيح تذكير يسمعه الصائم من صوت المعدة ونداء الأمعاء فإن الذي نبت في أحضان النعمة ولم يعرف طعم الجوع ولم يذق مرارة الطش لعله يظن أن الناس مثله وأنه مادام يجد فالناس يجدون وما دام يطعم لحم طير مما يشتهي وفاكهة مما يتخير فلن يحرم الناس الخبز والبقول ، فلا غرو أن جعل الله الصيام حتى يشعر الغني أن هناك معدا خاوية وبطوناً خالية وأحشاء لا تجد ما يسد الرمق ويطفئ الحرق فحري بإنسانية الإنسان وإسلام المسلم ، وإيمان المؤمن أن يرق قلبه ، وأن يعطي المحتاجين وأن يمدّ يده إلى المساكين فالله رحيم وإنما يرحم من عباده الرحماء .
وفي الصوم قبل ذلك وبعده تمام التسليم لله وكمال العبودية لله رب العالمين ، وما أظهر هذا التسليم والعبودية في الصوم فالصائم يجوع ويعطش وأسباب الغذاء والري أمامه ميسرة لولا حب الله والرغبة في رضاه وإيثار ما عنده ، ولهذا نسب الله الصيام إلى حضرته وتولى جزاء الصائمين بنفسه فقال ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) .
شرعه الله إيقاظا للروح وتصحيحاً للجسد وتقوية للإرادة ، وتعويداً على الصبر ، وتعريفاً بالنعمة وتربية لمشاعر الرحمة ، وتدريباً على كمال التسليم لله رب العالمين .. اهـ كلامه .
فليت شعري هل فقه المسلمون أسرار الصيام وهل انتفعوا بشهر رمضان واستفادوا من حكمه ومقاصده .